كثيرًا ما نُطلق وصف “هادئ” على أشخاص مختلفين تمامًا في دوافعهم الداخلية، ونخلط بين الهدوء الحقيقي والكتمان النفسي. فالصمت، رغم تشابهه في الظاهر، قد يكون علامة على توازن داخلي ووعي، وقد يكون في حالات أخرى إشارة إلى مشاعر مكبوتة لم تجد طريقها للتعبير. فهم هذا الفرق لا يساعدنا فقط على فهم الآخرين، بل يفتح لنا بابًا مهمًا لفهم أنفسنا أيضًا.
الشخصية الهادئة غالبًا ما تكون نتيجة نضج نفسي وقدرة على إدارة المشاعر. الشخص الهادئ لا يخلو من الانفعال أو الغضب أو الحزن، لكنه يمتلك مساحة داخلية تسمح له بالتفكير قبل الرد، وبالتحكم في ردود أفعاله. صمته هنا ليس غيابًا، بل حضور واعٍ، وهو صمت نابع من اختيار لا من خوف.
في المقابل، الشخصية الكاتمة تميل إلى حبس مشاعرها داخلها لفترات طويلة. الشخص الكاتم يشعر كثيرًا، لكنه لا يُعبّر، إما لأنه لا يعرف كيف، أو لأنه تعلّم عبر تجاربه السابقة أن التعبير قد يكلّفه أذى أو رفضًا. صمته ليس راحة، بل وسيلة دفاعية لحماية النفس من الألم.
الفرق بين الشخصيتين يظهر بوضوح عند مواجهة الضغوط. الشخصية الهادئة، عندما تتعرض لموقف صعب، قد تختار الصمت مؤقتًا لتنظيم أفكارها، ثم تعود للحوار أو اتخاذ القرار. أما الشخصية الكاتمة، فقد تتراكم الضغوط داخلها دون تفريغ، مما يجعلها تعيش توترًا داخليًا صامتًا قد يستمر لفترة طويلة.
كما يختلف الطرفان في تعاملهم مع العلاقات. الشخص الهادئ قادر على التعبير عند الحاجة، ويعرف متى يتحدث ومتى ينسحب بهدوء دون قطيعة. بينما الشخصية الكاتمة قد تبدو متماسكة ومستقرة من الخارج، لكنها في الداخل تشعر بعدم الفهم أو الوحدة، لأنها لا تشارك ما بداخلها، ولا تطلب الدعم حتى عندما تحتاجه.
من الناحية النفسية، الهدوء المتوازن غالبًا ما يكون مؤشرًا على سلام داخلي نسبي، أما الكتمان المستمر فقد يتحول مع الوقت إلى عبء نفسي. فالمشاعر التي لا تُعبّر لا تختفي، بل تبقى مؤجلة، وقد تظهر لاحقًا في شكل قلق، أو تعب نفسي، أو حتى انفجارات مفاجئة في مواقف غير متوقعة.
من المهم أيضًا الانتباه إلى أن المجتمع أحيانًا يُكافئ الكتمان دون وعي، فيمدح الشخص الصامت لأنه “لا يشتكي” أو “يتحمل”، دون إدراك أن هذا الصمت قد يكون على حساب صحته النفسية. في المقابل، قد يُساء فهم الشخص الهادئ الواعي على أنه بارد أو غير مهتم، رغم أن صمته نابع من توازن لا من لامبالاة.
الفرق الحقيقي بين الهدوء والكتمان لا يُقاس بعدد الكلمات، بل بالحالة الداخلية. هل الصمت يمنح صاحبه راحة أم يثقله؟ هل هو اختيار واعٍ أم هروب من التعبير؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تكشف جوهر الشخصية أكثر من أي سلوك ظاهري.
فهم هذا الفرق يمنح الإنسان فرصة للتعامل مع نفسه بلطف أكبر. فإن كان هادئًا، فليحافظ على هذا التوازن دون أن يُلغِي حقه في التعبير. وإن كان كاتمًا، فالتعلّم التدريجي للتعبير عن المشاعر، ولو بخطوات صغيرة، قد يكون بداية لتحرير النفس من حمل ثقيل طال أمده.
وفي النهاية، ليس الهدف تصنيف الناس أو إصدار الأحكام، بل الفهم. فحين نفهم دوافع الصمت، نصبح أقدر على التواصل، وأقرب إلى أنفسنا، وأكثر وعيًا بالآخرين.

0 comments:
إرسال تعليق