في عالمٍ يُقاس فيه الإنسان غالبًا بما كُتب في سيرته الذاتية، قد ينسى كثيرون أن قيمتهم الحقيقية أوسع بكثير من صفحة واحدة تحمل تواريخ، شهادات، وخبرات. السيرة الذاتية أداة مهمة للتعريف بالمسار المهني، لكنها لا تختصر الإنسان، ولا تعبّر عن كل ما يحمله من قدرات وتجارب إنسانية غير مكتوبة.
كثير من الباحثين عن عمل يشعرون بالإحباط عندما لا تلقى سيرتهم الذاتية القبول المتوقع، فيربطون الرفض بقيمتهم الشخصية. هذا الربط مؤذٍ، لأن عدم القبول في وظيفة لا يعني نقص الكفاءة أو الفشل، بل قد يكون مرتبطًا بعوامل كثيرة لا علاقة لها بالقدرات الحقيقية، مثل التوقيت، أو احتياجات الشركة، أو المنافسة.
الإنسان أكثر من مسمى وظيفي، وأكثر من خبرة مدرجة. هناك مهارات لا تُكتب بسهولة في السيرة الذاتية، مثل القدرة على التعلّم، والمرونة، وتحمل المسؤولية، والعمل تحت الضغط، والتعامل الإنساني مع الآخرين. هذه الصفات تظهر في المواقف، لا في العناوين، لكنها غالبًا ما تكون سبب النجاح الحقيقي على المدى البعيد.
كما أن التجارب الصعبة، وفترات التوقف، وحتى الفشل، لا تقلل من قيمة الإنسان، بل تشكّل جزءًا من نضجه. فهناك من يتعلم في سنوات قليلة ما لا يتعلمه غيره في عمر كامل، وهذه الخبرة الداخلية لا تظهر دائمًا في السيرة الذاتية، لكنها تظهر في طريقة التفكير واتخاذ القرار.
التركيز المفرط على تحسين السيرة الذاتية دون الاهتمام بتطوير الذات من الداخل قد يخلق فجوة. فالثقة بالنفس، والوضوح، والقدرة على التعبير عن القدرات أثناء المقابلات، كلها أمور تنبع من الداخل، لا من الورق. عندما يعرف الإنسان قيمته، تنعكس هذه القناعة على حضوره وكلامه وسلوكه.
من المهم أن يرى الباحث عن عمل سيرته الذاتية كوسيلة، لا كحكم نهائي عليه. يمكن تطويرها، تعديلها، وتحسينها، لكنها لا تحدد من هو الإنسان فعلًا. القيمة الحقيقية تظهر في الاستمرار، في الرغبة في التعلم، وفي القدرة على النهوض بعد الإحباط.
حين يدرك الإنسان أنه أكبر من سيرته الذاتية، يتغيّر تعامله مع الرفض والتأخير. يصبح أكثر هدوءًا، وأقل قسوة على نفسه، وأكثر استعدادًا للمحاولة من جديد. هنا تتحول رحلة البحث عن عمل من عبء نفسي إلى مرحلة بناء ونضج.
0 comments:
إرسال تعليق