الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

التربية ليست أوامر بل قدوة

 


يعتقد كثير من الآباء والمربين أن التربية تقوم أساسًا على إعطاء الأوامر وتوجيه التعليمات، لكن الواقع التربوي يثبت أن الطفل لا يتعلّم مما يُقال له بقدر ما يتعلّم مما يراه ويعيشه يوميًا. فالطفل يراقب قبل أن يسمع، ويقلّد قبل أن يفهم، ولذلك تصبح القدوة السلوكية حجر الأساس في بناء شخصيته وتشكيل قيمه.

معنى القدوة في التربية

القدوة في التربية تعني أن يكون سلوك المربي منسجمًا مع ما يطلبه من الطفل. عندما يرى الطفل الصدق في تصرفات والديه، يتعلّم الصدق دون الحاجة إلى محاضرات طويلة، وعندما يلاحظ الاحترام في طريقة حديثهم، يكتسب هذا السلوك تلقائيًا. التربية هنا تتحول من أوامر مباشرة إلى تجربة يومية يعيشها الطفل داخل البيت.

لماذا لا تنجح الأوامر وحدها؟

الأوامر قد تفرض الطاعة المؤقتة، لكنها نادرًا ما تبني قناعة داخلية لدى الطفل. فالطفل الذي يُجبر على سلوك معين دون فهم أو نموذج يحتذي به، قد يلتزم به في وجود الرقابة فقط، ثم يتخلى عنه عند غيابها. على العكس، عندما يرى الطفل هذا السلوك مطبقًا أمامه، يصبح جزءًا من شخصيته وليس مجرد استجابة خوف أو عقاب.

دور السلوك اليومي في تشكيل شخصية الطفل

التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية هي أكثر ما يؤثر في الطفل، مثل طريقة التعامل مع الغضب، أسلوب حل الخلافات، احترام الوقت، والاعتراف بالخطأ. هذه السلوكيات تترك أثرًا عميقًا يفوق أي نصيحة مباشرة، لأنها تشكّل النموذج الحقيقي الذي يبني عليه الطفل فهمه للعالم ولذاته.

العلاقة بين القدوة والثقة

عندما يلاحظ الطفل أن والديه يتصرفان بما ينسجم مع أقوالهما، تتعزز ثقته بهما وبما يقدمانه من توجيه. هذه الثقة تجعله أكثر استعدادًا للاستماع، وأكثر تقبّلًا للنصح، وأقل ميلًا للتمرد. أما التناقض بين القول والفعل، فيخلق ارتباكًا داخليًا لدى الطفل ويضعف تأثير التربية.

كيف يكون المربي قدوة إيجابية؟

القدوة الإيجابية لا تعني الكمال، بل تعني الصدق مع النفس والاعتراف بالأخطاء عند حدوثها. عندما يخطئ المربي ثم يعتذر أو يحاول التصحيح، يتعلم الطفل أن الخطأ جزء من التعلم، وأن المسؤولية سلوك وليس شعارًا. كما أن التحلي بالصبر وضبط الانفعال أمام المواقف الصعبة يعلّم الطفل مهارات التعامل مع الضغوط.

أثر القدوة على المدى البعيد

الأطفال الذين ينشؤون في بيئة تقوم على القدوة السليمة غالبًا ما يطورون استقلالية داخلية وقيمًا راسخة، لأنهم تعلّموا السلوك من واقع حي وليس من تعليمات مجردة. هذه القيم ترافقهم في المدرسة، في علاقاتهم الاجتماعية، وفي قراراتهم المستقبلية، حتى بعد غياب المربي عن حياتهم اليومية.


التربية الحقيقية لا تُقاس بعدد الأوامر ولا بصرامة القوانين، بل بالأثر الذي يتركه السلوك اليومي في نفوس الأطفال. حين ندرك أن أعينهم تراقبنا باستمرار، نصبح أكثر وعيًا بأنفسنا، وأكثر حرصًا على أن نكون النموذج الذي نحب أن نراه فيهم. فالتربية ليست أوامر تُعطى، بل قدوة تُعاش.


  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيسبوك

0 comments:

إرسال تعليق

Item Reviewed: التربية ليست أوامر بل قدوة Rating: 5 Reviewed By: FATMAHSA